العقوبات على السودان: جرح قديم يتجدد في ظل الأزمات الراهنة
أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية فرض عقوبات على السودان على خلفية اتهامات باستخدام أسلحة كيمائية في الحرب المشتعلة في البلاد منذ أكثر من عامين.وبحسب بيان الخارجية أن تحقيقات الولايات المتحدة توصلت لاستخدام الجيش السوداني أسلحة كيمائية خلال الصراع المستمر، وذلك في العام 2024، مؤكدة على أن العقوبات تأتي استنادًا على هذا الانتهاك.
وطالبت الولايات المتحدة الجيش السوداني بالتوقف عن استخدام هذا النوع من الأسلحة، والوفاء بالتزاماته الخاصة باتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية الموقعة من معظم الدول.وقالت الخارجية الأمريكية إنها أبلغت الكونغرس بالعقوبات الموقعة على السودان في انتظار تفعيلها بعد 15 يوماً، وتشمل العقوبات قيوداً على الصادرات الأمريكية والتمويل المقدم لحكومة السودان.
وهو ما يعني عودة العقوبات الأمريكية على السودان حتى قبل أن يجف حبر قرار رفعها عقب الثورة التي أطاحت بنظام الرئيس عمر البشير، وذلك في عهد الحكومة المدنية التي تشكلت عقب الثورة قبل الانقلاب عليها بواسطة العسكر، الذين يخوضون الحرب الآن ويغرقون البلاد في بحر من الانتهاكات.
بحسب بيان الخارجية فإن أمام الحكومة السودانية فترة زمنية قبل أن تصبح العقوبات الأمريكية سارية بإجازتها من قبل الكونغرس في غضون أسبوعين من استلامها، في مقابل انتظار الحكومة لقرار إقرار عقوبات “اليانكي” يعيش الشعب السوداني تحت رحمة العقوبات التي يبدو أنها بلا نهاية.
يختلف السودانيون حول تأثير العقوبات الأمريكية الجديدة من عدمها بشكل مستمر، إلا أنهم ينفقون على أن أكبر عقوبة على السودان كان عليهم دفع فواتيرها، هي عقوبة الحرب التي يمتد تاريخها في السودان لسبعين عاماً، هي تاريخ البلاد كاملاً منذ تحقيق استقلاله.
تلك الفاتورة التي دفع كلفتها الأجداد والآباء والأحفاد، فالحرب التي اشتعلت أولاً في الجنوب، الذي حين قرر أن يمضي لحال حروبه منفصلاً اشتعلت في دارفور، وفي منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، وفي الشرق، وأخيراً في قلب الخرطوم في العام 2023، لتمتد الحرب وآثارها على كل السودان.ملايين الضحايا للحرب وبينهم ملايين من المشردين والنازحين واللاجئين، وخسائر مادية بلا حدود، مع غياب الاستقرار السياسي وتأثيرات اجتماعية عميقة
إلا أن عقوبة الحرب لا تبدو فقط في أنها جالبة العقوبات الامريكية، بل هي استمرارية دون انتهاء، حيث أن من يحمل السلاح هو صاحب الامتياز للوصول إلى قصر الحكم، وليصنع مزيداً من الحروب وبالطبع المزيد من العقوبات.يرى السودانيون في يوميات جدلهم أن أكثر عقاب للوطن هي “النخبة”، وتأكيدًا لفرضيتهم يمضون للاستعانة بكتابات الدكتور منصور خالد، الذي صاغ كتابه “النخبة السودانية وإدمان الفشل”.
تبدو المفارقة أن هذا الفشل هو الذي أنتج في آخر المطاف “قصة بلدين” ما يؤكد على حقيقة عجز النخبة السودانية سياسية أو اجتماعية في إيجاد صيغة للتعايش في إطار التعدد، وبالطبع معالجة الاختلالات التي واجهت عملية البناء الوطني لسودان حقبة ما بعد الاستعمار.
ولعل الحديث عن أزمات النخبة يقود للحديث عن أزمات الهياكل التي تم تشكيلها لإدارة شأن البلاد والناس، وعلى رأسها الأحزاب، وللتدليل على أنها أحد العقوبات السودانية على السودان هتافات الناس ضدها بقولهم “العذاب ولا الأحزاب”.
بينما يرى البعض أن أكبر عقوبة سودانية وقعت على السودانيين هي وجود العساكر الطامحين في السلطة، الذين ينتظرون الليل ليعلنوا بيانهم ذات صباح مبشرين الشعب بالثورة وبالإنقاذ، بل إنهم مستعدون للحصول على ثلثي فترة السودان المستقل وحكمها بـ”الزندية” وبالسيف والنار.
وكون العسكر وحكمهم عقوبة أخرى بحسب البعض، يؤكد على ذلك خروج الشعب للإطاحة بهم لثلاث مرات، وفي كل مرة يردد “حكم العسكر ما بتشكر”، لتكون العقوبة الكبرى في السودان هي وجود عسكر لا يرغبون في البقاء في ثكناتهم، وهم في كامل الاستعداد لصنع “مليشيات” لمعاقبة الشعب، ولكم في حرب اليوم أكبر دليل.
لكن لا عقوبة أكبر من هوان الشعب على حكومته، وهي ما ظلت الملمح الأبرز لكل حكومات السودان المتعاقبة، حيث ظلت على الدوام قضايا الشعب الأساسية في قاع الأهتمام الرسمي، في المقابل صعدت للقمة قضايا المصالح الذاتية للأفراد الذين يديرون حال الناس من أجل تحسين واقعهم الشخصي .
وفي ظل غياب أدوات الضبط ارتفعت نسبة الفساد الإداري والمالي وبات يتم النظر للوظيفة العامة بأنها أسهل الطرق لتحقيق الثراء، دون أن يتجرأ أحدهم لطرح السؤال من أين لك هذا؟ وهي النماذج التي ظهرت وبشكل واضح في فترة حكم “الإنقاذ” لتستحق لقب كونها العقوبة داخل العقوبة.
ويحاول منسوبوها مغالطة حكم التاريخ والإصرار على العودة للسلطة من أجل استمرار اختطاف الدولة، لا يهم أن أدى ذلك لقيام حرب أو حتى إعادة العقوبات مرة أخرى، مؤكداً على أنه أكبر العقوبات التي وقعت على السودان والسودانيين
قبل أن يتم تنفيذ العقوبات الأمريكية.
تتم محاولات إنتاج أساليب المواجهة القديمة ذاتها ضد المجتمع الدولي على شاكلة “أمريكا روسيا قد دنا عذابها”، وبالطبع التقليل من الآثار التي يمكن أن تتمخض عن العقوبات، وتصوير السودان بأنه المارد القادر على المواجهة والانتصار فيها، واستخدام عبارة “تحت جزمتي” في بلد لا يزال أهلها يستوردون أحذيتهم من الخارج ومعها كل احتياجاتهم مع تعطيل كل مشاريع الإنتاج بفعل الحرب وتداعياتها وتأثر الزراعة والثروة الحيوانية .
في بلاد لا يزال أهله يبحثون عن جرعة الماء الصالح للشرب تغتالهم الأمراض والأوبئة.
ويرون أن أكبر عقوبة تقع على رؤوسهم هي أن تكون على رأسهم حكومة تسعى لقياداتهم لمواجهة كل العالم، وهي العاجزة عن الوقوف لمجابهة مرض حمى الضنك والكوليرا، وهي تنهش أجساد الناس في أم درمان ممن يعيشون وسط عقوبات راهن الحرب بلا ماء وبلا كهرباء، يواجهون الأوبئة بلا مشافٍ ولا مناطق للعزل ويعاقبهم “المستغلين” برفع أسعار المحاليل الوريدية لضعف سعرها .
وهو ما يؤكد على فرضية ما ينتجه السودانيون من عقوبات على بلادهم وشعبهم تفوق تأثيراتها أضعاف ما يقوم به الخارج في هذا السياق .